اهلا بكم
اهلا بكم
بحث في الموقع

رسالة إلى الأستاذ الدكتور ماهر موسى العبيدي…….

لازلت أذكر وداعي لك على عجالة في نهاية عام 2006 كي استطيع اللحاق بموعد طائرتي وكلي أمل أن التقيك بأقرب وقت ممكن….بالكاد تبادلنا السلام وأوصيتني بأن اعتني بنفسي في بلاد الغربة. لم يكن بيننا طوال هذه المدة سوى مكالمة هاتفية في نهاية كل أسبوع لأطمئن عليك وعلى بقية الأهل.

منذ أن وطأت قدماي ارض مدينة الضباب وفي كل ليلة من لياليها الباردة الكئيبة وقبل أن أضع رأسي على الوسادة معلناً نهاية يوم أخر بعيداً عنكم…..أمعن النظر في هاتفي النقال…متوجساً رنينه…لكم خفت أن يرن في منتصف الليل لينقل لي خبراً لا يمكنني أن أتحمل وقعه…حاولت جاهداً أن لا اشغل تفكيري به وان أتجنبه قدر الإمكان….لكن كابوسي كان أقوى مني وظل يطاردني كل ليلة.

فجر الأحد 25 كانون الثاني 2009 الساعة الثانية والنصف….رن هاتفي النقال ممزقاً صمت الليل المرعب…. هاجمتني كوابيسي السوداء مجتمعة…وأنا استمع للمتصل وهو يتفوه بكلمات كانت كالحجر الساقط على صدري لألفظ أنفاسي بثقل وحرقة..هي تلك الكلمات التي لطالما ارتعشت خوفاً بمجرد التفكير بها…….والدي فارق الحياة.

مرت الثواني كالسنين…ومر شريط ذكرياتي مع والدي أمام عيني خلال دقائق… طفولتي…وصباي…ويوم تخرجي من كلية الهندسة…ويوم سفري وأنا غير مستوعب لهول المصيبة التي حلت بي. توفى أبي وأنا بعيداً عنه بعد أن وعدته مراراً بزيارتي القريبة له في بغداد ولكني لم أوف بوعدي ولن استطيع أن أوفي به بعد الآن.

أبــي….

حاولتُ كل ما بوسعي أن أسافر رجوعاً لبغداد كي أكون من ضمن المشيعين ولكي أحملك على كتفي… ولكن لم استطع أن أوفي بوعدي هذا أيضا…يا من حملتني وإخوتي عند مرضنا وحميتنا من كل مكروه في أيام الحروب والحصار والتفجيرات… لم استطع أن أرد لك الجميل ولم استطع حتى أن احضر مراسم العزاء ونكثت وعدي مرة أخرى…فهل ستسامحني؟

منذ ذلك اليوم المشئوم والنار تأكل في أحشائي…والحرقة والغصة تكوي قلبي….لا اعرف كيف سأكمل هذه الحياة الظالمة وأنا تائه بدونك..لطالما أرشدتني للطريق الصحيح كلما تهت…وساعدتني في اشد المحن…وكم استندت عليك كلما تعثرت.. حتى بعد بلوغي الثلاثين من العمر…لم يمنعني ذلك من الاتكاء عليك ولم تتردد يوما في طمأنتي وتهدئتي حتى وان كنت ابعد عنك آلاف الأميال…..

لم اعرف شخصا في حياتي أحب عمله كما أحببت أنت..لازلت أذكرك وأنت تأتي كل يوم بأربع أو خمس أكياس عملاقة مليئة بأوراق المعاملات المقدمة لوزارة التعليم العالي ولا زلت أذكرك وأنت تعمل إلى الرابعة صباحا حرصا على إتمام معاملات المواطنين في أسرع وقت ممكن وعلى حساب صحتك وأوقات مراجعتك للأطباء. وكلما مازحتك حول هذه الأكياس..ليكون جوابك المعتاد…”ومن غيري سيكمل معاملات الناس ويساعدهم؟”  فهل سيثمن احد إخلاصك لعملك هذا؟

ألقيت المئات من المحاضرات في المؤتمرات والندوات وتخرجت على يديك الأجيال تلو الأجيال من طلبة البكالوريوس والماجستير والدكتوراه…فهل ستبقى في ذاكرتهم؟

قد لا استطيع ألإجابة على أي من هذه الأسئلة…ولكن ما استطيع أن أؤكده لك انك سوف تبقى حياً معنا…ومع من احبك ومع من أصدقك القول ومع من اخلص لك….فأنت كنت ومازلت وستظل للأبد حجر الأساس للتعليم العالي في العراق.

أبــي…..

كلنا ولِدنا لنموت…إلا أنت فولِدت لتبقى حياً إلى الأبد….فأنت خالد بخلود تاريخك الحافل بالانجازات العلمية والأكاديمية وبصماتك الواضحة على التعليم العالي وعلى الجامعات العراقية والعربية. يكفيني فخراً أن احمل اسمك الغالي الذي افتخرت به طوال حياتي..وسأظل افتخر به ما حييت.

اعتادت والدتي أن تشبهني بك….فكتبي لا تفارقني في حلي وترحالي و موزعة في كل غرف البيت وأنا دائم القراءة والتعلم… فهل استطيع أن أحقق ما حققت؟ والله لو أعيش خمسة حيوات أخرى لن استطيع أن أصل إلى جزء بسيط ما وصلت إليه من محبة الناس واحترامهم وتقديرهم لك.

وصفوا لي مراسم التشييع …كان تشييعاً مهيباً لا يليق إلا بماهر العبيدي حيث المشيعون يبكون بحرقة وكأنك احد أقرباءهم…ففي ذلك اليوم قطفت ثمار ما زرعت طوال هذه السنين من حب الناس لك….كيف لا وأنت الذي جندت نفسك لمساعدة الجميع…كيف لا وأنت الذي حرصت على خدمة الناس وفتحت قلبك قبل مكتبك للناس كيف لا وأنت كنت كالوالد الحنون لكل من عمل معك…

لم يبقى لدي ما اكتبه بعد الآن فلو كتبت آلاف الصفحات ما وفيتكم حقكم وعلمكم وأدبكم وإخلاصكم وصفاء قلبكم…..لن استطيع الكتابة بعد الآن….فقد جفت الأقلام…وجفت العيون…وجفت العروق…. يوم رحلت…..

وداعاً أبي……أودعك وأنا احترق من داخلي….أودعك وقلبي يعتصر لعدم رؤياكم وسماع صوتكم بعد الآن…..أودعك في هذه الحياة الظالمة التي لم تنصفك ولم تنصف أمثالك من شرفاء وعلماء العراق…أودعك لأواجه ظلمات الدنيا وحيداً بعد أن أطفأت الشعلة التي كنت أنير بها دربي……….وداعاً

ولدكم المحب

باهر ماهر موسى العبيدي

»
  1. اللهم اغفر له وارحمه.
    اللهم اغفر له وارحمه.
    أخ باهر:
    لك أن تفخر بالمغفور له بإذن الله . فقد كان أستاذي في جامعة الاسراء. فله منا كل الثناء والشكر.

    Comment بواسطة محمد حسن مخلوف / جامعة الاسراء — August 28, 2010 @ 2:14 pm

  2. رحم الله الدكتور ماهر العبيدي واسكنه فسيح جناته
    الاخ العزيز باهر
    لقد التقيت بالمرحوم الدكتور ماهر العبيدي في المرحلة الاولى من الدراسة ولم انسى ابدا تلك الشخصية المميزة التي لطالما افتخرت امام الاصدقاء بتشرفي بمعرفتها، عزائي لكم ولاهلكم بهذا المصاب الجلل والهمكم الصبر والسلوان
    اخوك مهند العميدي

    Comment بواسطة مهند ضياء العميدي — September 14, 2010 @ 11:28 am

  3. السلام عليكم
    اشكر عائلة الدكتور المرحوم لانهم وضعوا مقالاته على الموقع , عندما وجدت المقالات فرحت وقلت سأرسل ايميل للدكتور اساله عن المزيد , ثم تفاجأت بهذه الرساله من ابنه انه توفى, وشعرت بالخسارة الكبيرة , ان شالله يكون مكانه الجنه وله المغفره والرحمه , ولأهله الصبر على فراقه , هذا الموقع ضروري ان يبقى لانه صدقه جاريه على روحه الطيبه , والسلام عليكم

    Comment بواسطة فائزه الاعرجي — April 1, 2011 @ 12:24 pm

  4. رحمك الله يا استاذي الفاضل اتذكرك حينما اتجهنا اليك نحن الدفعة الاولى للحصول على الماجستير في المحاسبة من جامعة البصرة ولم يكن وقتها من يدرسنا الرقابة فارسلتنا الكلية الى بغداد ورغم مشاغلك وافقت ان تدرسنا وكان وقت المحاضرة الساعة السادسة مساء في الجادرية ما اجمل كلماتك واخلاقك الرفيعة والاجمل حينما كانت تنتهي المحاضرة تقلنا الى سكننا في الفندق كم كنت طيب القلب رحمك الله واثابك وادخلك جناته

    Comment بواسطة د.مناضل السالم — April 14, 2011 @ 9:34 pm

اكتب تعليقا