اهلا بكم
اهلا بكم
بحث في الموقع

جامعة بغداد واثر رؤسائها الثلاثة العظام في ترصين مسيرتها

تمر علينا في هذه الايام الذكرى الخمسون لتأسيس جامعة بغداد ،أو مايسمى بيوبيلها الذهبي ،ولعل هذه الجامعة محظوظة جداً لانها سيرتبط أسمها دائماً بانها أم الجامعات وأساس التعليم العالي والبحث العلمي في العراق ولاغرابة في ذلك,  فهي اول الجامعات التي اسست في العراق الحديث وارتبط اسمها باسم بغداد مدينة العلم والسلام منذ ان اقيمت أما في الحاضر فان جذور جامعة بغداد تمتد الى سنة 1908 وهو العام الذي اسست فيه كلية الحقوق العراقية وعلى مدى خمسين عاماً أنشئت بعض الكليات والمعاهد العالية منها: كلية الطب, وكلية الهندسة, وكلية الاداب, وكلية العلوم, ودار المعلمين العالية, وكلية التجارة والاقتصاد, وكلية الزراعة, وكلية الطب البيطري, وكلية الملكة عالية, ومعهد الهندسة الصناعية, وكلية الصيدلة وكلية طب الاسنان. وكانت تدار من قبل دائرة خاصة في وزارة المعارف تسمى دائرة الكليات والمعاهد العالية حتى أسست جامعة بغداد في سنة 1957 إذ صدر أول قانون لها والحقت الكليات والمعاهد العالية بها.

بعد هذه المقدمة فان مايعنّ في خاطرتي هذه هو الحديث عن أهم روؤسائها في السنوات العشر الاولى لقيامها, و دورهم في تحقيق رصانتها وكفاءتها العلمية والادارية. فرئيسها الاول المرحوم الاستاذ الدكتور متي عقراوي كان يخطط لان تكون جامعة بغداد أرقى جامعات الشرق الاوسط وفي بدايات ادارته لهذه الجامعة كانت قراراته وتوصياته واضحة في هذا الشأن, ذكرت جزءًا منها في مقالتي السابقة عن هذا العالم التربوي الشهير في العالم أجمع .لقد كان يؤكد رصانة الجامعة العلمية, وأعضاء هيئة التدريس فيها, والعاملين من منتسبين واداريين , هذا ماعلمته وسمعته من مسؤولي الجامعة بعد التحاقي موظفاً وطالباً فيها ،وان ترك الجامعة بعد فترة قصيرة من توليه مسؤوليتها فانه وضع الحجر الاساس لعلميتها ورصانتها. ولاعرو في ذلك فهو كان عملاقاً بالعلم والعمل وليس بالكلام والادعاء. في مقالتي عن المرحوم الاستاذ الدكتور عبد الجبار عبد الله اتصل بي الكثير من معارفه ومحبيه شاكرين لي ما قلته بشأنه واعلموني عن كثيرمن خصاله ومزاياه المتميزة في علمه وادبه ،ولكن اهم ما احب ان اذكره هنا انصرافه في عمله كرئيس للجامعة وسعيه لتحديد مسار رصانتها العلمية وافاقها المستقبلية ،اما شؤونها الادارية فقد اوكلت الى امانتها وهذا مايحصل غالباً في اغلب الجامعات الغربية الرصينة ،على العكس مما نلاحظه في الوقت الحاضر (من وجهة نظري) حيث تاخذ الامور الادارية, وليس العلمية, جزءاً كبيراً من اعمال رؤساء جامعاتنا.

كان رحمه الله هادئاً مؤدباً لم اقرأ له خلال مدة رئاسته لجامعة بغداد حتى خروجه منها أي رد او تعليق, في الصحف التي كانت تنشر مقالات بحلقات متعاقبة او في هذه الصفحة أو تلك, على الحملات التي كانت أغلبها ظالمة متجنية على شخصيته ومكانته, ولكنه في حفل تخرج طلبة جامعة بغداد في 30/6/1961 كان رده بليغاً مؤثراً علمياً حيث قال بعد ان ذكر ماقامت به جامعة بغداد ونشاطاتها ( ان مايثار ومايقال عن جامعة بغداد ورئاستها هي حملة ظالمة لها اسبابها وفي هذا الامر أذكر لسيادتكم قصة تلك الشجرتين من صنف واحد نبتتا في ارض واحدة وسقيتا من منبع واحد وعاشتا وترعرعتا في محيط واحد, ولسنوات عدة احداهما هادئة صافية صابرة مثمرة, والاخرى تخرج الاصوات, وتقوم بالحركات, وتحدث الفوضى والجلبة ،ضاقت تلك الهادئة الصابرة المثمرة ذرعاً بما تقوم به اختها وجارتها حتى سألتها يومًا: , نحن من اصل واحد ونبتنا في مكان واحد ونعيش في مكان واحد, فما الذي يدفعكم الى كل هذه الفوضى والجلجلة (الخرخشة)؟ اجابتها اختها (الفوضوية): الا تعرفين لماذا؟ قالت الهادئة الصامتة لا, لذلك اسألك, اجابتها الفوضوية: ان ما يدفعني الى القيام بذلك هو محاولتي جلب بعض الطيور والحمائم والعصافير التي دائمًا تحط رحالها عليك ولا تصل الى ابدًا, فهل فهمتي؟.

اثارت هذه القصة الجميلة الرائعة عاصفة من التصفيق والاستحسان ولو كان هذا العالم الكبير حيًا يرزق حتى الان, فما عساه يقول عن اشخاص هذا الزمان (اشباه شجرة ذلك الزمان) الذي لا تعرف غير الثرثرة والتبجح والادعاء وهي خاوية كالطبول التي لا يعلو صوتها إلا باتساع جوفها.

اما رئيسها الثالث الاستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري (اطال الله عمره) فهو لم يكن كبيرًا فقط, بل عملاق في العلم والادارة, تولى ادارة الجامعة في ظروف عصبية سياسيًا واجتماعيًا, ولكنه استطاع بكفاية ادارته ودقتها وتهدئة اوضاعها, ومن ثم انطلاقها مجددًا باعلى مستويات الرصانة والعلمية. كان الاستاذ الدكتور الدوري عالمًا في اختصاصه (التأريخ الاقتصادي الاسلامي) بارعًا في كفايته الادارية؛ لخبرته الطويلة في هذا المجال وخلال مدة رئاسته لجامعة بغداد الطويلة كان يخطط ليس فقط لتعزيز رصانتها العلمية, ولكن لمستلزماتها العلمية والعملية ومبانيها الجامعية , إذ استطاع الحصول على منطقة واسعة تمتد من باب المعظم, وحتى الوزيرية لتكون خاصة لمباني جامعة بغداد, ومازال ذلك مؤشرًا على خرائط هذه المنطقة في دائرة التسجيل العقاري – الرصافة واستطاع الحصول على تخصيصات مالية لانشاء ابنية كلية الصيدلة , والاقسام الداخلية في الوزيرية ومتحف التأريخ الطبيعي  وكلية الطب البيطري في مبانيها الحالية, فضلاً عن كثير جدًا من الابنية والتوسعات اللازمة لمتطلبات نمو الجامعة. هذا, واجدني مضطرًا لتكرار القول مرة اخرى بان هذا العالم العملاق المتميز في علمه وكفايته كان وراء انشاء جامعة البصرة, وجامعة الموصل, والجامعة المستنصرية, ومجلس البحث العلمي, وفي منتصف الستينيات من القرن الماضي ترك منصبه بشجاعة بسبب تجاوز حصل على صلاحياته ومسؤولياته .

اعود الى اثرهم ودورهم في رصانة جامعة بغداد, فضلاً عما ذكرت احب ان اركز على موضوعين هامين: اولهما ان هؤلاء الرؤساء كان يساعدهم اساتذة اكفاء, سواء في رئاسة الجامعة, واذكر منهم: سعدي الدبوتي, والدكتور عباس الصراف,والدكتور حمدي يونس, والدكتور ابراهيم شوكت, والدكتور احمد شاكر شلال, والدكتور حازم سليمان في الامانة العامة اما المساعدون فاذكر منهم: الدكتور  صلاح عزت تحسين, والدكتور فاضل الطائي, والدكتور تقي الدباغ, والدكتور علي الزبيدي. هذا في رئاسة الجامعة, وقد اكون نسيت بعضهم, اما في عمادات الكليات فقد اسندت في تلك الفترة الى اساتذة علماء اجلاء اذكر من اتذكرهم دون تحديد في أي مدة, ومع أي من هؤلاء الرؤساء عملوا, قدر ما استطيع: ففي كلية الاداب كان الدكتور مهدي المخزومي, والدكتور ابراهيم السامرائي, وناجي معروف, وفي الادارة والاقتصاد كان الدكتور فوزي القيسي, والدكتور اسماعيل مرزة, والدكتور محمد علي ال ياسين, والدكتور محمد علي رضا الجاسم, وفي كلية التربية الدكتور كمال ابراهيم, والدكتور يوسف عبود, والدكتور محمود غناوي الزهيري, وفي كلية القانون عبد الجبار عريم, وفي كلية العلوم الدكتور فاضل الطائي, والدكتور محمد واصل الظاهر, وفي كلية الشريعة الدكتور رشيد العبيدي, وفي كلية الطب الدكتور احمد ناجي القيسي, والدكتور عبد الجبار العماري, والدكتور عبد اللطيف البدري, وفي طب الاسنان الدكتور باريت (انكليزي الجنسية) والدكتور يوسف مرزة, والدكتور فاضل القدسي, وفي كلية الهندسة الدكتور مهدي حنتوش, والدكتور ناجي عبد القادر, وفي كلية التحرير (وغير اسمها الى كلية البنات) الدكتور روز خدوري, والدكتور سعاد خليل اسماعيل, وفي كلية الطب البيطري الدكتور صادق الخياط, وفي كلية الزراعة الدكتور عبد الكريم الخضيري, والدكتور حسين العاني, وفي المعهد العالي للتربية الرياضية (كلية التربية الرياضية لاحقـًا) نجم الدين السهروردي, وفي معهد الهندسة الصناعية محمد احمد, وفي اكاديمية الفنون الجميلة الدكتور خالد الجادر, ولربما نسيت ذكر بعض منهم, فعشرات السنين تؤدي الى شيء من النسيان. هذا ولا يفوتني أن  ذكر ان في ذلك الوقت كان في كل كلية او معهد اساتذة كبار في علمهم وخلقهم وعملهم, كان يمكن لأي واحد منهم تولي المسؤولية العلمية والتربوية بكفاية عالية, ولاتوجد مشكلة في اختيار البديل لضمان استمرار المسيرة العلمية ونموها.

هذا ومما ينبغي ذكره ان جميعهم اعتمدوا في تولي الوظائف الادارية والمالية في رئاسة الجامعة على مجموعة من الموظفين خبراء وذوي اخلاق وكفاية عالية لم يلجأ أي منهم الى تغيير او اعفاء أي منهم ثقة بهم وبنزاهتهم وكفايتهم, ومنهم جميل صالح العبيدي, ومحمد وديع الشهابي, ويوسف حنا, ومحمد جواد جعفر, وفؤاد زكو, وصبحي عبد القادر, ورديف عبد الغفور, وعلي الحاني وسلمان الباجه جي والسيدة تماضر الخالدي, وثابت العاني, ومالك الجوهر, وغيرهم قد يكون نسيت ذكرهم.

اما الامر الثاني الذي كان يميز جامعة بغداد عند توليهم رئاسة الجامعة أنهم وبالرغم من توفر الاساتذة والتدريسيين العراقيين بمستويات عالية واغلبهم حصلوا على شهاداتهم من جامعات عربية واجنبية رصينة وعالية المستوى, وللحاجة الماسة لتدريسيين آخرين في اختصاصات مختلفة , تعاقدوا مع اساتذة عرب واجانب معروفين في مستواهم العلمي العالي, سبق أن عملوا في جامعات عالمية رصينة ليعملوا في كليات جامعة بغداد, ومن ثم في فروعها المختلفة في البصرة, والموصل خصوصًا, ومنهم المستر باريت في كلية طب الاسنان, مع اساتذة امريكان واستراليين ومصريين في كلية الطب, وهانس وزوجته في كلية الاداب, وكريشنا مورتي في كلية العلوم, وابو المبشر صديقي في كلية الزراعة, واحمد علي بكير والمستر برو, والمستر نايير في كلية التجارة والاقتصاد, والالمانيان سيمون وفرنر كلاتة في معهد الهندسة الصناعية. وقد تضاعف استخدام الاساتذة العرب والاجانب في جامعة بغداد عند ادارة الدكتور الدوري لها حتى بلغ عددهم ثلاثمائة وخمسين استاذاً في كليات الجامعة في بغداد فقط, ومنهم الشيخ الدكتور محمد الطنطاوي مفتي الازهر الحالي .

عند استفساري من امين خزانة الجامعة في تلك السنين المرحوم فؤاد زكو إن كان الاساتذة العرب والاجانب يشملون بالنسبة المئوية المحددة من الراتب لاجور المحاضرات؟ اجابني بان الدكتور الدوري أوصى بعدم شمولهم بها, لعدم وجود نص في عقودهم يوصي بذلك, فضلاً عن ضرورة الافادة منهم بافضل واعلى مستوى في التدريس والاشراف العلمي, وعند حصول ذلك ستكون كلفة استخدامهم (التي هي عالية في ذلك الحين) اقل وهذا يحقق وفرة لموازنة الجامعة, عند ذاك ايقنت انه مفكر اقتصادي وليس مؤرخـًا فقط (وهذا هو اختصاصه تأريخ اقتصادي).

يا ترى هل اعطيت الثلاثة العظام من رؤساء جامعة بغداد حقهم في خاطرتي القصيرة هذه ؟. في بناء هذا الصرح العلمي العالي؟ ولا يفوتني في الختام ان اقول اننا  ينبغي ان نجعل مسارهم منارًا لنا في اختبار القيادات الجامعية من رؤساء جامعات او عمداء الكليات اومعاهد حتى رؤساء الاقسام بهذا المستوى المتألق الذي كان قبل خمسين او اربعين سنة أديرت جامعاتنا باعلى المستويات في الاخلاق والعلم والكفاية العلمية والادارية بالاساتذة من ذوي الخبرة الواسعة في اختصاصاتهم ومسؤولياتهم  .

أ. د. ماهر موسى العبيدي

أكاديمي عراقي

 

 
»

اكتب تعليقا