اهلا بكم
اهلا بكم
بحث في الموقع

انفلونزا الطيور وانفلونزا العقول

 

قبل الشروع في سرد خاطرتي هذه تتطلب الأمانة أن اعترف باني استعرت عنوانها من مذكرة لاحد الموظفين العاملين معي, وعندما رغبت ان اقابله قدم طلبًا لنقله الى دائرة أخرى، ولا اعلم إن كان غير مقتنع بالبقاء في العمل معي أو خوفًا من لومه على إنهاء مذكرته بهذه العبارة، في حين كنت راغب في أن أهنئه على ما توصل اليه من استنتاج: أن هناك أنفلونزا عقول، وليس أنفلونزا طيور فقط.

بدءا أرى أن من الضروري ذكر تأريخ مرض الانفلونزا وانتشاره في العراق, وحسبما أتذكر فانه انتشر عام 1956، وكان عنيفًا وعنيدًا بسرعة انتشاره وصعوبة علاجه، وغالبًا ما نحتاج لفترة غير قصيرة للخلاص منه. وسبب تذكري لصفاته إصابة  أخي الكبير في ذلك العام بهذا المرض، الذي كاد ينهي حياته لولا مشيئة الله، فكتب له النجاة منه. كما كان لوقوعه ولشيوعه صدى عند أفضل قراء المراثي الدينية في واحد من أكبر جوامع مدينة الحلة؛ فكان هذا القارئ يدعو الله أن يحفظ العراق من كل خطر، ومن (القنزة ونزة) حينها ضج الجالسون بالضحك.

أما الجامعات والمؤسسات والباحثون المتخصصون، في العلوم الطبية والبيولوجية، وكما هو معلوم، فسعوا إلى تطوير وسائل مكافحته، وبنجاحهم قلت مخاطره.

ومنذ ذلك الحين خف الحديث عن الأنفلونزا، لكن في السنوات الثلاث أو الأربع الأخيرة بدئنا نسمع عن ظهور نوع جديد من الأنفلونزا يصيب الطيور، وقضى على مجاميع منها، لان من مخاطره أنه يمكن أن ينتقل بوسائل شتى الى الإنسان، فمات في بعض الدول عدد من مواطنيها، وتبين فعلا أن عدوى المرض انتقلت من الطيور اليهم. فماذا حدث بسبب ذلك؟ باشرت حكومات الدول التي ظهر فيها المرض بإعدام الملايين من الدجاج والبط والاوز (وحتى خضيري أهوار العمارة، إن طار إليهم!) وشملت هذه الحملة الظالمة المصاب، و غير المصاب، المسكين الذي لا يعلم بأي ذنب يقتل او يباد. وإن كان الشاعر الفيلسوف ابو العلاء المعري قد اشفق على فروجة الدجاج عندما قدموا لها حساءها بقوله :

 

استضعفوك فوصفوك هلا وصفوا شبل الاسد 

 

فاني اقول لملايين (ولربما مليارات) الدجاج المباد: استضعفوك فأبادوك وإلا لأبادوا الاسود, لان من امر بابادتها ليس بقادر على مثل هذا العمل، إن وجد نوع آخر من الأنفلونزا يصيب الأسود ويمكن أن ينتقل إلى الإنسان!

أعود الآن إلى الجزء الآخر من هذه الخاطرة، التي رجا شوفير التاكسي المتجه الى بيروت ان اسرع بكتابتها ونشرها في جميع الصحف المحلية والعالمية، عندما علقت على أمر ما يخصه، باني سأكتب قريبًا خاطرة بعنوان (انفلونزا العقول اخطر الاف المرات من انفلونزا الطيور) ـ ولربما ضن باني وصلت لمرحلة العالمية في الكتابة.

إن كانت أنفلونزا الطيور قد تسببت بوفاة واحد أو اثنين في هذا البلد او ذاك، وحتى لو فرضنا موت عشرين أو خمسين أو مائة، فان الإنسان بادر إلى قتل مئات الملايين منها، من دون ذنب، وبلا محاكمة، ولا استئناف، أو تمييز لقرار الحكم الغريب العجيب هذا،  برغم خلوه من الرحمة أو الشفقة, فيماخصصت ملايين الدولارات (او اليورو او الماركات, وحتى الدنانير والليرات) لتنفيذه.  فلماذا لا تصدر الاحكام بهذه السرعة، او العجالة لابادة، او ذبح من هم مصابون بمرض أنفلونزا العقول؟

ولماذا لا تخصص مبالغ مشابهة أو مقاربة لما خصص للقضاء على انفلونزا الطيور من أجل القضاء على مرض انفلونزا العقول؟

هل هم اسود فيخشون منهم إلى هذا الحد ام ان الكثير ممن اصدر مثل هذه الاحكام هم أيضا ممن أصيب بهذا المرض الخطير؟ أدعو الله أن لا يكونوا كذلك.

لو قلبنا صفحات التأريخ القديم، أو الحديث، لوجدنا الكثير من الحكّام أو المتسلطين، كانوا مرضى بأنفلونزا العقول؛ فقتلوا، أو اعدموا، أو ذبحوا، أو أبادوا، أو اهلكوا (أو مارسوها كلها) ملايين البشر من دون ذنب او جريرة. كم من الطغاة المصابين بانفلونزا العقول تسببوا في موت الملايين؛ مثل نيرون وآخرين قادوا هذه الإمبراطورية أو تلك، أو في هذه المملكة أو تلك، في أزمنة غابرة أو حديثة.  كم ذبح الحجاج وامثاله في بلادنا العربية والإسلامية؟ الم يكونوا مصابين بانفلونزا العقول واثبت التأريخ ذلك؟ كيف نصنف ما قام به تجار العبيد السود، حين ساقوا أبناء أفريقيا المساكين كالخرفان الى أميركا، وقدّموهم إلى رأسمالييها الذين عاملوهم بأقسى صنوف التعسف والاستعباد؟ ألا يدخل فعل تجار الرقيق هذا ضمن ممارسات مرضى العقول والقلوب؟ هل كان هتلر انسانًا  عاقلاً ام مريضًا عقليًا؟ فدمر ألمانيا ودول أخرى، وكانت نتيجة حربه وعدوانه موت عشرين مليون من البشر, اليس هذا الفوهرر مصاب بأنفلونزا العقول؟ ماذا عمل ستالين الذي لم يحكم إلا بالظلم والاستبداد فأباد الرفاق قبل الغرباء، وقتل الملايين في حملات ابادة وتهجير لا تقل عن شبيهتها حملة الأنفال؟ الم يكن ستالين مصابًا بمرض عقلي فارتكب ما ارتكب من جرائم وأفعال، ودمر الاشتراكية قبل الرأسمالية؟ ماذا عمل سوهارتو باندونيسيا عندما انقلب على رفيقه سوكارنو فاباد الملايين من البشر؟ ماذا كان يعمل شاوشيسكو وزوجته بالشعب الروماني؟ فقدر الله لذلك الشعب المسكين ان يتخلص من هذا المدعي بالاشتراكية والانسانية زورًا وبهتانًا, ماذا فعل بول بوت قائد الخمير الحمر (عفوًا الحمير الصفر) بشعب كمبوديا، وهو الذي يدعي بالاشتراكية، فأباد الملايين والمقابر الجماعية التي تكتشف يومًا بعد يوم تشهد بذلك؟

إن هؤلاء كانوا مصابين بمرض انفلونزا العقول (او اي مرض اخر) فعاثوا في الارض فسادًا, ولكن يا ترى هل المصابون بأنفلونزا العقول قد انتهوا ام لا يزال الكثير؟ نعم لا يزل منهم ومن أشباههم الكثير، وخاصة في بلادنا الاسلامية والعربية، وإنّ منهم من لقى حتفه، ومنهم من ينتظر! فإني أتوقع أن يظهر في المستقبل الكثير من هؤلاء (والله يستر!) وان ركزت على الحكام المصابين بداء في عقولهم (او ادمغتهم) فان هناك يا قارئي العزيز العدد الكثير، الكثير، من هؤلاء، فليس الاستبداد سوى عرض واحد من أعراض هذه الأنفلونزا،  وهناك أعراض اخرى, فألا تتفق معي أن كلّ مختلس، ومفسد، ومجرم، وقاتل، ومغتصب، وسارق، ومعتد في مجتمعنا مصاب بأنفلونزا العقول.. إنهم جميعًا كذلك، وإن لم يكن مرضهم انفلونزا العقول، فهو (قنزة ونزة) العقول، على حد تعبير قارىء جامع الحلة الكبير!

كما لا يفوتني أن اذكر نوعا آخر من الناس: أناس مصابون بأنفلونزا العقول، أيضا، وهم أولئك الذين لا ينظرون إلى الأمور إلا من زاوية واحدة، هي وجهة نظرهم وحدهم، ولا يقبلون أي حوار أو نقاش مع وجهة النظر الأخرى، فيديرون ظهورهم لرأي الآخرين، ولا يأبهون بها متناسين طبيعة الأمور، ويختلط الحابل بالنابل إن هم تولوا أية مسؤولية أو قيادة.

اقول وادعوا حكوماتنا وحكومات العالم أجمع للرحمة بملايين الدجاج لكون انفلاونزاها لم تقتل الا بضع مئات من البشر في حين أن أنفلاونزنا (أنفلونزا العقول) قتلت الملايين منهم. وإن لم تتخذ خطوات عالمية ووطنية جدية، فسوف يستمر في الفتك بملايين البشر.

 

أ. د. ماهر موسى العبيدي

أكاديمي عراقي

 

 

»

اكتب تعليقا