اهلا بكم
اهلا بكم
بحث في الموقع

ديمقراطية التعليم بعد ديمقراطية التسييس

 

 قبل سنتين نشرتُ مقالة لي بعنوان: ديمقراطية التعليم قبل ديمقراطية التسييس، وكان تأريخ نشرها قد سبق إجراء الانتخابات السياسية الشهيرة في عراقنا الجديد, ولم تلق تلك المقالة أي تجاوب او صدى لدى مسؤولي التعليم العالي, لكنها قوبلت باستحسان من قبل الكثير من الزملاء الأكاديميين وآخرين من المؤمنين بالديمقراطية والشفافية في جميع أوجه الحياة لمجتمع لم يلق على مر السنين الا الاضطهاد والقهر برغم طاقاته وانجازاته الكبيرة ومساهماته العظيمة في بناء الحضارات الإنسانية المختلفة. نعود الى صلب خاطرتنا هذه واقول ان من العجب العجاب في بلدنا الزاخر بما فيه من عجائب هذا الزمان انك تجد غالباً (مع الأسف) ان مثل هذه الآراء او الأساليب الديمقراطية ،بل حتى الأكاديمية ترفض من قبل أكاديميين وجامعيين يقتضي الأمر ان يكونوا من المنادين الأوائل بالديمقراطية والشفافية, ليس في الحياة الجامعية الأكاديمية ، وإنما في جميع اوجه الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية . وبرغم هذا وذاك فاني ارى ان المؤسسات الجامعية والتعليمية العالية ينبغي ان تكون هي الأنموذج الأمثل من جميع نواحي الحياة تلك, وبعكسه فهي لا تعليمية ولا عالية, بل رجعية لا قيمة  لها ولا فائدة ترتجى منها.

ونحن مازلنا في مقدمة خاطرتنا هذه أرى ان من المهم التطرق إلى تجاربنا الديمقراطية وغير الديمقراطية في الحياة الجامعية, وكان أبرزها عملية اختيار رئيس لجامعة بغداد التي جرت في سنة 1961 على وفق قانونها ولاقت صدى كبيراً ليس فقط في الأوساط السياسية فحسب, وإنما في الأوساط الشعبية عامة لما استندت اليه عملية الاختيار من أُسس علمية موضوعية متميزة, فحققت تلك العملية مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب .

 بعد الكثير من المتغيرات السياسية والاجتماعية، وبعد تأسيس الكثير من جامعات البلاد, تطورت الديمقراطية والشفافية في تسنم المناصب الجامعية، و قد استندت لمدة طويلة من الزمن على عاملين أساسيين لا ثالث لهما ، الموالاة السياسية للنظام والسلطة القائمة (او المتسلطة)، وكذلك للمكانة العلمية المناسبة، وامتد ذلك لمدة أربعين عاماً ،من سنة 1963 لغاية 2003, لكن ولتوثيق الأمور بالعلمية والدقة اللازمتين لابد من الإشارة الى ان الأساس الثاني، وهو الدرجة العلمية المناسبة فرط فيه كثيرًا برغم النصوص القانونية الواضحة في قانون التعليم العالي والبحث العلمي، لان الاختيار غلب العامل الأول على العامل الثاني, فأصبح الاختيار لملء هذه المناصب يجانب العلمية والديمقراطية، وأصبح إشغال جزء غير قليل من المناصب الجامعية مثار جدل، لكون من شغلها او أدارها أشخاص غير مناسبين لها, وحين انتهى ذلك النظام او انهار او قل ما شئت عمّا حصل في 9/4/2003, وجدنا اننا أصبحنا في حال لا اعتقد إن امرءاً، ذا عقل لبيب وحصيف لم يفقد حقه ،تحت احتلال أمريكي قلباً وقالباً, ولا ضرورة ان نسأل عن السبب او المسبب كما اعتقد، بل ذلك كان حصاد أخطاء مقصودة أو غير مقصودة لاربعين عاماً خلت بالتمام والكمال .

باشر الأمريكيون،عبر ممثلي حاكمهم العام، بتطبيق او نقل او تجريب مبادئ ديمقراطيتهم، او ديمقراطية جديدة في كيانات او وزارات عراقنا التي فككوها بسرعة فائقة تفوق سرعة احتلالهم لهذا البلد، وبدأوا بإعادة تركيبه لننتقل من العراق العظيم الى العراق الجديد, فباشر ممثلهم في التعليم العالي والبحث العلمي بدعوة التدريسيين فيها لإجراء انتخابات لرؤساء جامعاتهم وعمداء كلياتهم لتحقيق الديمقراطية والشفافية في إدارتها، ولربما كان يعتقد بانه سيتحقق بذلك مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب.

 ولكن ومع بالغ احترامنا وتقديرنا لمن فازوا في تلك الانتخابات، فإنها كانت ناقصة وغير ناضجة، ولأسباب كثيرة منها: ان الظروف والأجواء التي جرت فيها تلك الانتخابات كانت غير مناسبة لان البلد لم يمض على سحقه عسكريًا وسياسيًا سوى شهرين أو أقل, كما ان اغلب أعضاء الهيئة التدريسية لتلك الجامعات والكليات كانوا غائبين عنها، اما بسبب عدم انتظام التدريس في الجامعات، او بسبب عدم الإعلان والإعداد الكافي لها قبل مدة مناسبة، خاصة في ظروف عطلت فيها وسائل الإعلام وتعطلت فيها متطلبات الإعداد. كما لابد من الإشارة الى ان إجراءاتها اللاحقة لم تكن موافقة لأحكام القوانين والأنظمة الصادرة قبل سنة 2003م هذه القوانين التي أكدت او التزمت السلطات باستمرار العمل بأغلبها بعد 2003 الى حين تشريع بديل يحل محلها, فأنجبت تلك الانتخابات الكثير من المشاكل العلمية والتعليمية والقانونية وهي لم تحقق (في اعتقادي) وبنسبة غير قليلة مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب هذا، ولا غرابة في ذلك، فان ذلك الممثل الأميركي وفي لقاء عاصف كان  لي معه في مدينة اربيل وجدته لا يعرف ولا يعلم شيئاً عن واقع التعليم العالي في العراق.

أعود الى الهدف الرئيس لمقالتي هذه، واقول لقارئي العزيز ان لتحقيق مبدأ ديمقراطية التعليم ،بعد ان نجحنا وبصورة جيدة في تحقيق ديمقراطية التسييس يجب ان تعلم هذا المبدأ سيحقق الكثير من التقدم والتطور والتميز في عراقنا العظيم والجديد، سأذكر هذه بعد ان أوضح الآلية التي ارى انها الاوفق في تحقيق ذلك الهدف العظيم ( ديمقراطية التعليم): ان ذلك يتحقق بالانطلاق من اصغر كيان في مؤسسات التعليم العالي، ولكنه أهمها،وهو القسم العلمي فان جرى اختيار رئيسه بانتخاب يجريه أعضاء القسم ممن لا تقل مرتبتهم عن مدرس ليفوز أكفؤهم وأحقهم في تولي رئاستهم ليقود مسيرتهم الى الإمام علميًا وادارياً وسيكون خير من يمثلهم في انتخاب عميدهم، الذي يجري اختياره وفق أحكام القانون من قبل رؤساء أقسام الكلية العلمية او أعضاء مجلس الكلية، الذين هم جميعًا جرى توليهم لرئاسة أقسامهم بالانتخاب ، فيكون انتخابهم لزميلهم على اساس الكفاءة لانه سيقود كليتهم الى الأمام علميًا وادارياً، ويمثلهم خير تمثيل في اختيار رئيس جامعتهم، الذي يجري بالانتخاب من قبل جميع العمداء المنتخبين ليكون رئيسهم اكفأهم منتخباً ليس من قبلهم فحسب، بل منتخب من جميع هيئة التدريس في تلك الجامعة ،لان كل من شارك في انتخابه كان مشخصًا، وان كل من شارك في انتخابه كان منتخبًا ايضًا، فهل هناك افضل وانقى من هذه الديمقراطية والشفافية التي اقترحها؟ وهل يجوز القول بان ذلك سوف لا يحقق الكفاية والخبرة والتميز في قيادة المؤسسات الجامعية في تعليمنا العالي ام نبقى ننادي بالديمقراطية ولا نمارسها؟ أو هل نستمر في تمني تسنم هذه المناصب؟ المناصب في الدولة جميعها للرجل المناسب في المكان المناسب, وان لم تطبق مثل هذه الديمقراطية في ارقى مؤسسات الدولة, فاين ستطبق اذن؟ , وان قيل بان مثل هذه الانتخابات ستقوم او تحصل بناءً على توافقات او تحاصصات او تآلبات, او تنافعات, فانا اقول ان حصل ذلك فعلاً فعلى التعليم العالي السلام, هذا ولا يفوتني قبل ان اختم مقالتي او خاطرتي هذه ان اشير الى انني تحدثت عن الديمقراطية في مؤسسات التعليم العالي وكان ذلك يخص الجسد فكيف ينبغي ان يكون عليه الحال في الرأس، أي ديوان الوزارة، فان في قانونها احكامًا تنظم ذلك بكفاءة مناسبة، ولكن لا يفوتني ان اذكر ان ادارة دوائرها ينبغي ان يتولاها اساتذة اكفاء في الاختصاص الدقيق ، لهم خبرة وممارسة طويلة في اختصاصهم الدقيق والعام، فضلاً عن ممارسة وخبرة ودراية مناسبة في الامور الادارية والمالية والقانونية, اما اقسامها المتخصصة, فأرى ان تدار من قبل اساتذة مساعدين متخصصين في وظائف تلك الاقسام ولا تدار شعبها الا من قبل حاملي شهادة الماجستير في الاختصاص الدقيق, وجميع العاملين من حملة الماجستير والشهادة الجامعية الاولية، ومن الاوائل المتفوقين ليصبح العاملون في ديوان الوزارة او رأسها بأعلى مستويات التخصص والكفاءة ليكونوا اهلاً لقيادة مؤسسات التعليم العالي وادارتها وباتت هذه الشروط هي الاوفق لذا بدأت الكثير من جامعات العالم تعتمدها ( كما اعلم) . وهذه الآلية المقترحة مطروحة على بساط البحث, نأمل ان توفق في أن تجد لها طريقـًا للاعتماد والتشريع , ومن المؤكد انني لا ادعي أن هذه الاراء تمثل الكمال  في تحقيق ديمقراطية التعليم العالي ولكنني استطيع ان اقول انها افضلها (والله اعلم).

 

أ.د. ماهر موسى العبيدي

أكاديمي عراقي

 

 

»

اكتب تعليقا