اهلا بكم
اهلا بكم
بحث في الموقع

العلم والجهل

 

إن من نعمة الله على عباده من البشر أن خلق فيهم الدماغ المتميز عن جميع ما خلق، وهذه النعمة جعلت من العقل الذي يحركه ذلك الدماغ الوسيلة لتقدم وتطور ونمو البشرية منذ الخليقة وحتى الان، حيث كان للتفكير المستمر لبني البشر أن تتراكم المعرفة اللازمة لخلق كل ما وصل إليه الانسان حتى عصرنا الحاضر ولا شك في أن الناس حتى وقتنا الحاضر ينقسمون إلى ثلاثة اقسام، فمنهم من يحب التعلم والعلم فينتفع بعلمه وينفع، ومنهم من يتعلم ولكنه يبقى جاهلاً لكثير من الامور ولا ينتفع، ومنهم من يبقى جاهلاً لا يتعلم ولا يعلم، وأنا هنا استشهد ببيتي شعر للإمام الشافعي :

 

                 تعلم ما استطعت تكن اميراً                               ولا تك جاهلاً تبقى اسيـراً

                 تعلم كل يوم حرف علــــــم                               ترَ الجهال كلــــــهم حميــراً

    

فما أروع ما ذكره الامام من وصف لذوي الجهل في كونهم لا يعدوا ان يكونوا حميراً، وللحمار في وجهة نظري حسنتان: أولاهما أنه ومنذ قيام الخليقة كان الحمار رفيق الانسان في حياته ولولاه ما استطاع ذلك الانسان الذي وصل الى ما وصل اليه من تقدم ورخاء؛ في كونه  خادماً له في حله وترحاله، حاملاً متاعه خف أم ثقل ، ولهذه الخدمات العظيمة التي قدمها الحمار بدءنا نقرأ الكثير من المقالات التي تشيد بفضله على البشرية جمعاء وأخذت الدول المتقدمة تقيم المعارض ومسابقات الجمال للحمير والجحوش ولا اخفي عليكم أني شاهدت مرة في التلفاز إحدى هذه المسابقات وكان الحمار الفائز فيها جميلاً جداً.

أما الميزة (أو الصفة) الاخرى لهذا الحمار فهي غباؤه الذي هو مضرب الامثال، وصوته الذي هو أنكر الاصوات كما جاء في القرآن الكريم ومن غباء هذا الحيوان أنه لا يسير الا بالسوط فإن أشرت إليه إلى الاتجاه اليمين سار إلى اتجاه اليسار ، وفي الستينات عندما كنت اسافر اسبوعياً الى مدينة الحلة ، كان السواق يخفضون السرعة لدرجة  تسير السيارة كالسلحفاة وإلى مسافة طويلة، ولعدم وجود ما يبرر ذلك ضقت ذرعاً بهذا الحال سألت أحد السواق يوماً لماذا تخفض السرعة هكذا ولا يوجد شيء على الطريق يبرر ذلك؟ ضحك وقال: ألا تشاهد الحمير على مسافة من يدك اليمين؟ ضحكت وقلت له: إنها بعيدة عّنا، أجاب : إن المشكلة هنا،  فهي وإن كانت بعيدة إلاّ إنها تسببت الكوارث لأنها عندما تشاهد سيارة مسرعة تخاف منها فتركض باتجاهها فتحصل الكارثة لانها تصطدم بالسيارة وبالعكس عندما ترى السيارة بطيئة تبقى بمكانها فتسلم منها وتسرع بعد أن نبتعد عنها.

في السنتين الاخيرة تغير رأي بغباوة الحمار إذ لم يعد الناس يشيرون الى غباوته إلا قليلاً جداً كما لاحظته أنه لم يعد يسير في الاتجاه المخالف المراد منه بل يسير في الطريق الصحيح المطلوب، فضلاً عن ذلك ما يزال يقدم أفضل الخدمات لبني البشر واعتقد أنه في عراقنا ذي الثروة النفطية الهائلة، أفاد منه كثيراً الفلاحون والقرويون لنقل منتجاتهم أذ لا بانزين ولا كاز، كما ولعدم الاشارة إلى غبائه سبب آخر ( كما اعتقد) وهو زيادة عدد الجهلة والأميين في بلادنا بسبب ما عصف  بالبلد من حروب وحصار اضحى فيه الكثير من الناس يستهزئون بحاملي الشهادات ورواتبهم الشحيحة ويفضلون أصحاب المهن والحرف التي تدر عليهم الربح الغزير، ولصعوبة الحياة وعيشها بدأ الكثير من الناس يدفعوا بأبنائهم إلى العمل وليس إلى الدراسة فزادت الامية وزاد الجهل ولا يختلف اثنان بأن في أن الانسان الجاهل لا يختلف كثيراً عن الحمار كما ذكر الامام الشافعي (رحمه الله).

اعود مرة اخرى الى نوع آخر من الجهل وهو أخطر بكثير من جهل الحمير الذي أشار اليه الامام الشافعي واعتقد انه لم يكن شائعاً في ذلك الزمن، ألا وهو جهل أشباه المتعلمين الذين يدعون العلم والمعرفة وأنت إن حاورتهم أو نظرت إلى أعمالهم تجد العجيب الغريب فلا علم ولا ثقافة أو منطق ولا موضوعية بل غالباً ما تكون العكس ولطالما تجدهم منافقين بحجة أنهم مجاملون أو أنهم مختلسون وسراق ويدعون النزاهة والمثالية والكمال ويرتكبون في الوقت نفسه أشنع الاعمال، وإن عرفوا شيئاً فغالباً ما يحرفوه لمصلحتهم، لا خير فيهم ولكن عجاجهم ودخانهم يعمي العيون ، لا فائدة ولا خير يرتجى منهم ولكنهم في النطاح بارعين.

وهم لطالما يفعلون الكثير من الامور الشبيهة بما ذكرت ولا أريد أن أطيل وهم غالباً مدعون نزاهة وكفاءة ولكنهم غالباً متسلتون طلاب ولاية لا يفهمون ولا يفقهون شيئاً هم أيضاً من الحمير الذي ذكرهم الامام الشافعي.

 أعود إلى الفئة الاولى التي تحدث عنهم الامام الشافعي وهم المتعلمون الذين عرفوا قيمة العلم وتعلموه حرفاً حرفاً فهم حقيقة أصحاب علم وثقافة وأخلاق ترى كلامهم أثمن من الذهب والدرر وعلمهم علم ثقافة وأدب، دائماً الخير والبركة والحب في أعمالهم وتصرفاتهم وعلاقاتهم، يحترمون أنفسهم قبل احترامهم لغيرهم ، أكفاء في ادائهم وأعمالهم تسعى الوظائف أو المناصب إليهم ولايسعوا إليها لأنهم ليسوا  طلاب ولاية ولا مغانم أو منافع ذاتية، ان المجتمعات الراقية مجتمعاتها ومثقفيها بهذا النوع من العلم والثقافة والاخلاق وليس كما هو الحال في مجتمعنا في هذه السنين فإن تفشت الامية وعم الجهل فتلك مصيبة كبرى وإن ساد وانتشر جهل أنصاف المتعلمين والمثقفين فالمصيبة أعظم ، وإن كنا في أمس الحاجة إلى برنامج طموح للقضاء على الامية فإننا نحتاج إلى برنامج أشمل لمحو جهل أنصاف المتعلمين ليسود في مجتمعنا المتعلمون والمثقفون الذين ذكرتهم، وصدق مَنْ قال : ” إن العلم يرفع أمةً لأجل مقام والجهل يحطها إلى  أسفله”.          

 

 أ. د. ماهر موسى العبيدي

أكاديمي عراقي

 

 

»

اكتب تعليقا