اهلا بكم
اهلا بكم
بحث في الموقع

تعمير النفوس قبل تعمير الشوارع والجسور

 

يحير المرء المتتبع لمسيرة الخطط الاقتصادية الخمسية أو المناهج الاستثمارية السنوية منذ انطلاق حملة الأعمار في بداية عقد الخمسينيات من القرن الماضي وحتى السنة الحالية في أسباب تضمن تلك الخطط والمناهج السنوية لمئات الملايين ومن ثم عشرات المليارات من الدنانير المعادلة لملايين ومليارات الدولارات المعادلة لالاف التريولنات من الدنانير (بعد أن خر الدينار صريعاً امام الدولار في سنوات الحصار) في الانفاق على إنشاء الطرق والجسور والمباني والمنشآت المدنية او العسكرية، وتضمنت تلك الخطط الكثير من الانفاق على المشاريع الصناعية والانتاجية ومن ثم التهم التصنيع العسكري مبالغ هائلة لما خصص في تلك الخطط والمناهج لانشاء المصانع العسكرية او شراء السلاح وان كانت النظريات الاقتصادية الاشتراكية منها او الرأسمالية جميعاً تركزّ على أهمية إقامة البنى التحتية للاقتصاد الوطني في اعمال التنمية ومن ثم التوجه نحو بناء ما يتطلب للخدمات او مستلزمات التنمية والرفاه الاجتماعي .

ستون عاماً تقريبا ومنظرونا ومخططونا لا توجد لدى أغلبهم غير هذه الافكار والنظريات يعيدونها المرة تلو المرة، فأن أقامت الدول الاشتراكية الملتزمة التزاماً صارماً بهذه النظريات بإعادة ترميم البنى التحتية في عشرة أو عشرين عاماً، وإن حدّثت الدول الرأسمالية أبنيتها التحتية بعد الحرب العالمية الثانية طيلة خمس سنوات وإن قامت الدول الخليجية النفطية المجاورة بوضع أساس اقتصادي جديد في مدة لم تتجاوز عشرة أعوام فالعراق بقي يراوح في خطواته وحده يبنيها ويدمرها المخربون من عراقيين وأمريكان لمدة ستين عاماً حتى التهمت كل الموارد التي خصصت دون جدوى والان نقف مرة رابعة او خامسة امام مشاريع هدفها تأمين البنى التحتية لاقتصاد العراق ولكن متى تنجز هذه المشاريع التي لا يعلم بها الا الله؟! وزاد الأمر سوءاً – ومع الاعتذار لاخواني اساتذة الاقتصاد بما سأطرحه من آراء ارجو منهم مناقشتها دون انفعال- إننا في هذه السنوات بأمس الحاجة إلى تعمير النفوس وليس تعمير الجسور والطرق والممرات ورصف الارصفة التي لا يسير عليها حتى الاطفال، وإن افترضنا أن أحداً من الاخوان سيقول إن هذه الاعمال لكل منها تخصيصاً معيناً لذلك لا يمكن التخطيط بصورة اخرى او خلافاً للفصول والابواب التي اعتادت اجهزة التخطيط والمال على العمل بها كل عام، أعود وأقول إن كل هذا صحيح ولكن يمكن أن يكون محط جدل ونقاش للوقوف على افضل الاساليب التي يمكن أن تغير الاحوال من دون التمسك بما قاله الاقتصادي الروسي أو الانكليزي أو الأمريكي، ونعود الى ما وضعه الفكر الاقتصادي للاسلام الذي اكد على اشباع الحاجات واطعام الجياع والفقراء وإكساء الناس وتوفير أهم الخدمات لحفظ كرامة الانسان وفي مقدمتها الامان، والغذاء، والكساء وسد حاجات الفقير والغريب والاسير والايتام والغرباء، ومن ثم الاهتمام التام بالصحة والتربية والتعليم والثقافة والشؤون الاجتماعية وغيرها من الخدمات التي ملت الناس بالنداء والرجاء لأعطائها الاولوية ولكن الامر لم يلق جل الاهتمام واذكر منها الماء الصالح للشرب الخالي من القاذورات والترسبات والميكروبات ثم الكهرباء ثم البانزين والكاز وإذا تساءلنا عن كيف ينبغي ان يكون توزيع الاموال وكيف يفضل أن نعدّ موازنة الاستهلاك والاستثمار لمدة متوسطة وقصيرة الأجلين فأرى من الافضل أن يكون الآتي :-

اولاً / دراسة علمية واقتصادية شاملة ودقيقة لما يتطلب تخصيصه من اموال لما يحقق توفير الابنية والمنشآت لجميع القطاعات الاقتصادية الخدمية في البلاد سواء ما ينشأ منها أم يصان ( صيانة كبيرة ) لتأمين تنفيذ هذه النشاطات بأفضل مستوى من الاداء .

ثانياً / وهنا ينبغي ان يدرس ما يتطلب ان يعطي الاولوية والسرعة في التنفيذ بحسب الاهمية والضرورة وهي كالآتي :-

  1. القطاع الصحي .
  2. قطاع التربية .
  3. قطاع التعليم العالي .
  4. بقية القطاعات الخدمية .

ثالثاً / دراسة علمية واقتصادية دقيقة للاستثمارات في القطاعات الاقتصادية الانتاجية .

إن الاستثمارات في القطاعات الاقتصادية الانتاجية ينبغي أن تعدّ بصورة دقيقة جداً متناسبة والحاجات الاقتصادية الانتاجية المهمة والتي ينبغي ان توضع بكل دقة واهتمام .

  1. القطاع الصناعي والاولوية في الكهرباء .
  2. قطاع التعدين والغابات والاولوية نصبه للنفط الخام وصناعاته .
  3. القطاع الزراعي وجميع انشطته يجب ان تكون تحظى بالاولوية   والاهتمام .
  4. قطاع النقل والمواصلات وتعطى الاولوية فيه لسكك الحديد والطيران.
  5. التجارة الداخلية والخارجية وتعطى الاولوية فيه لتجارة المواد الغذائية والانشاء والبناء.

 

يقول البروفسور  البولوني غورسكي- وهو من أشهر اساتذة الاقتصاد الرأسمالي في دول اوربا الاشتراكية في سنوات السبعينات- في كتابه (الاقتصاد السياسي الرأسمالي) : إن طريق التنمية الاقتصادية الذي سلكته الدول الاشتراكية لتحقيق البنى التحتية والارتكازية بوساطة الخطط الخمسية ومن ثم لتحقيق التراكم الرأسمالي للدولة وبهدف تحقيق التنمية الاقتصادية الاشتراكية لم يكن لديها غير هذا السبيل لكون أغلبها كانت دولاً فقيرة وليست رأسمالية وقد حقق ذلك نجاحا كبيرا وواضحا، لكن هذه الدول ركزت في خططها واعطت الاولوية للقطاعات الاقتصادية الانتاجية على حساب القطاعات الاقتصادية الخدمية، أي كانت الخدمات لم تحظ بما كان يجب من الاهتمام فكان ذلك خطأ واضح البيان، أما الدول الرأسمالية فقد كانت اقل حاجة للبناء التحتاني وكان عليها إعمار ما خربته الحرب، فكانت النظريات الكنترية التدخلية ( والتي هي اشتراكية التوجه باسلوب اخر) ومن ثم المساعدات الاميركية بعد الحرب قد ساعد هذه الدول في سرعة اعادة الاعمار واعادة الامور بأفضل مما كان وكان بإمكانها الموازنة في الانفاق عبر موازنة الدولة بين ما يجب من انفاق على القطاعات الاقتصادية للخدمات، وكان هناك اتفاق على قطاعات الاقتصاد الانتاجية وإن كان في هذه الدول من يطلق العنان للقطاع الخاص.

ويضيف البروفسور غورسكي قائلاً : لكن الامر يختلف كثيراً في الدول التي تتوافر فيها الاموال ويمكنها بسهولة الانفاق ومنها الدول النفطية الغزيرة الاموال ولاسيما دول الخليج التي منها العراق فبإمكانها أن تحقق النمو الاقتصادي والاجتماعي بصورة متوازنة وسريعة بين جميع القطاعات الاقتصادية الخدمية منها او الانتاجية ، لانه لا حاجة للانتظار او بذل الجهود لتحقيق التراكم في الاموال، وقد حققت دول الخليج ما اقترحه او افترضه البروفسور غورسكي لانها أيقنت بنصيحة غيره أيضا من اقتصاديين انكليز واميركان، ولكن لوعدنا الى ما توقعه غورسكي حين قال، وإن سلكت أغلب الدول النفطية الخليجية الاسلوب الرأسمالي لتحقيق الرخاء فإنها قادرة في مدة قصيرة من الزمن على تحقيق هذه الاهداف ويعود العامل الاول الاساس في ذلك إلى وفرة الاموال النفطية أما العامل الثاني فهو في قلة عدد السكان، أما العراق والجزائر البلدان العربيان الوافران في الثروات النفطية وغيرها الكثير من معادن وخيرات فضلاً عن توافر الايادي العاملة والخيرات مع عامل مهم آخر أنهما ينهجان نهجاً اشتراكيا في تخطيط الاقتصاد فإنهما يمكن (كما أتوقع) خلال مدة قصيرة قادمة أن يكونا من الدول المتقدمة جاعلة التخلف في خبر كان ولكن مع الاسف ان ما حصل لهذين البلدين من تدمير وخراب ما لم يكن بالحسبان.

هذا ما قاله غورسكي، اما ما كان يقوله علماء التنمية والاقتصاد في الدنمارك فهو يختلف عن هذا وذاك، إذ أنهم يرون أن التقدم الاقتصادي لا يمكن أن يعد مؤشرا دقيقاً لرقي البلدان، لان الاموال التي لا تصرف على تنمية ورقي المجتمعات لا قيمة حضارية لمثل هذه الاموال بل أن قياس مستوى تقدم البلدان هو بمستوى ما ينفق من ثرواتها الاقتصادية على خدمات مجتمعات تلك البلدان. وكلما كان ذلك بنسبة عالية – كما وضحت في مقدمة مقالتي هذه أي الصحة والتربية والتعليم والثقافة والأمان- كان ذلك دليلاً على رقي حضارة  هذه المجتمعات وتقدمها، من هذا كله اصبحت واثقاً بأن السياسة الاقتصادية والمالية التي ينبغي انتهاجها في العراق دائماً هي الهادفة وبصورة مستمرة الى تعمير النفوس قبل تعمير الشوارع والجسور.    

 

 

أ. د. ماهر موسى العبيدي

أكاديمي عراقي

 

 

»

اكتب تعليقا