اهلا بكم
اهلا بكم
بحث في الموقع

الموصل حلوة وجنة

 

ما كدت أن أنتهي من كتابة خاطرتي قبل أكثر من عام وعلى الرغم من تأخر الوقت حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، والتي كانت بعنوان ((أحيا وأموت على البصرة)) للمطرب الريفي الشهير المرحوم حضيري أبو عزيز حتى أعلن المذيع بأننا سنستمع الى أغنية ريفية للمطرب نفسه عنوانها ((الموصل حلوة وجنة)) توقفت حينها عن الكتابة وأخذت أصغي الى المذياع لأسمع تلك الأغنية التي اعجبتني كثيراً كلماتها والتي كانت صادقة حقاً في وصف تلك المدينة الجميلة.

وإذا كان مؤلف هذه الاغنية المنسية ومطربها قد أبدعا في وصف المدينة، قررت اليوم أن اكتب عن ما اعتقده وأراه في أهل هذه المدينة الذين هم أحلى من مدينتهم الحلوة والجنة.

ففي مدرستي الابتدائية في مدينة القاسم في لواء الحلة –  كما كان يسمى – وفي أواخر الاربعينات وبداية الخمسينات التي لم يكن فيها من أهل المنطقة سوى مديرها، كان هناك ستة معلمين من أهالي مدينة الموصل يدرسوا الموضوعات المختلفة وكانوا – وكما اتذكرهم – مثالاً للأدب والاخلاق والالتزام في أداء الواجب بكل جد واحترام فهذا المعلم محمد الذي يدرس الرياضة والنشيد وحول حديقة المدرسة الى جنة، وهذا المعلم جورج الذي كان متفوقاً في تدريس اللغة الانكليزية، وهذا مصطفى الذي يبدع في تدريس الجغرافية والتاريخ والمعلم يحيى الذي يبدع في تدريس موضوع الأشياء والمعلم عبد القادر البارع في تدريس الرياضيات، كلهم من الموصل الحدباء والفيحاء وأم الربيعين ، رحمهم الله إن ماتوا وأطال الله عمرهم أن كانوا أحياء.

في الستينيات من القرن الماضي فتحت عدة كليات تابعة لجامعة بغداد في الموصل وعمل نائب رئيس جامعة بغداد في الموصل الاستاذ الدكتور نجيب خروفه بكفاءة ومثابرة لا مثيل لهما لارساء جامعة رصينة متميزة وكان موفقاً في ذلك، وعندما تولى رئاستها الأستاذ الدكتور محمود الجليلي أرسى أعرافاً جامعية رصينة كانت لها الفضل في تعزيز رصانة هذه الجامعة المتميزة ولا أنسى مقابلتي له عندما أوفدتني جامعة بغداد لفصل حسابات جامعة بغداد عن جامعة الموصل، ومساعدتها في فتح حساباتها، عندها اختبرني في علم المحاسبة قبل أن يسمح لي بمساعدتهم في تلك المهمة ، لا بل وكما أتذكر انه أجرى معي حواراً مالياً ومحاسبياً في تلك المقابلة .

تكررت زياراتي كثيراً لهذه المدينة العظيمة في تأريخنا العراقي والعربي والاسلامي، فأرض نينوى موطن الحضارة الاشورية العظيمة وهي المدينة العربية التي أصرت ان تبقى ضمن العراق الدولة العربية، وهي المدينة الاسلامية الملتزمة التي لها تأريخها الحافل في الحضارة الاسلامية والتي انجبت الكثير من علماء الدين والمفكرين والاساتذة الاسلاميين فضلاً عن مراقد العديد من الأنبياء والأولياء الصالحين، وهي المدينة التي قاومت الكثير من الغزوات وحدتها، وصبرت على الكثير من ما حاقها من حصارات  ومحاولات دمار و إبادة وتخريب وصدتها بكل شجاعة ومقاومة متميزتين والكتب التأريخية كثيرة وشاهدة على ما أقول وأفضل ما قرأته عن ذلك هو ما ورد عنها فصول عدة في كتاب (العراق في التأريخ) الذي ألفه عدة مؤلفين عراقيين متميزين.

أعود الى ذكر ما علق في فكري وذاكرتي عن أهالي الموصل ، هو ما يتميزون به أهلها من جد ومثابرة في الدراسة والعمل والاداء، ونادراً ما تجد فيهم من يتجرد من هذه الصفات التي يتميز بها غالباً جميع أبناء المناطق أو الدول الشمالية ذات الجو البارد او البارد جداً وهو أحد أهم العوامل التي تجعل الانسان فيها دؤوباً ومثابراً كما اعتقد أما الحرص أو التدبير والعقلانية في الإنفاق فهو ليس بخلاً كما يعتقد البعض في بلادنا – مازحين غالباً- بل هو حسن تصرف والتزام بالآية القرآنية والمبادئ الاقتصادية الاسلامية التي ينصح فيها الباري سبحانه (( ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك ولا تبسطها كل البسط )) وهناك سبب مهم آخر بحسبما قرأته في تأريخ هذه المدينة وما سمعته من معلومات من إخواني الموصليين وهو ما عانته المدينة على مر التأريخ وفي القرن الثامن عشر والتاسع عشر تحديداً من حروب وفرض حصار التي عصفت بهم وأهلكتهم جوعاً ، فجعلتهم ذكرى هذه المأسي مدبرين وحريصين غالباً، فأهل هذه المدينة ليسوا بخلاء إلاّ أنهم كرماء ، مضيفون الغرباء أفضل ضيافة وكرم، ولطالما كانت في موائد ضيافتهم لنا عند زيارتنا لمدينتهم ما لذ وطاب من الاكلات وليس فقط كبة البرغل التي يشتهر بها الموصليون.

ولا أود أن اطيل على قرائي سرد صفات أهالي هذه المدينة الحلوة والجميلة فإن ما أنجبته هذه المدينة من اطباء ومهندسين واقتصاديين واختصاصيين وعسكريين اكفاء جداً كان وما زال لهم الفضل في بناء العراق وهم السباقين في نهل العلم والانصراف إليه بكل شغف وشوق ليس لطلب الرزق والعيش فقط بل للإفادة منه في إشباع الفكر الذي لا ينضب من العلم والمعرفة .

أعود الى المدينة وضواحيها وكما عرف عن تأريخها العريق وثروتها الاثرية والكثير من معالمها الاسلامية وما يعود الى الديانات الاخرى فقد حباها الله بجو لا مثيل له في الدنيا فهي ام الربيعين، إذ لا خريف فيها بل ربيع وما أجمل ربيعها التي غالباً ما صادفت سفراتي أليها في موسم الربيع، وهضابها الخضر ونسيمها العذب وماء نهر دجلة الذي يشطرها الى صوبين يضيف الى هذه المدينة جمالاً على جمال.

 أن مدينة الموصل كانت أولى المدن العراقية التي أقيمت فيها الصناعات المختلفة جزء مهم منها كان ملكاً وما يزال للقطاع الخاص وغالباً ما كانت في منتهى الجودة ولا عجب في ذلك ، إذ لا يوجد قماش ذاعت شهرته لعده مئات من السنين وما زال غير الموسلين، وهذا ما يدفعني إلى مناشدة الدولة بضرورة توجيه استثمارات كبيرة لهذه المدينة وانشاء قاعدة صناعية وزراعية ضخمة فيها تعود للقطاع العام او الخاص فضلاً عن استثمارات ضخمة سياحية فهي افضل مدينة سياحية في العراق يمكن أن يجد فيها العراقيون الراحة والاستجمام في الربيع؛ لانها مدينة ناس طيبي النفس وكرام، فهل تلتفت الحكومة بجد لذلك كون الموصل فعلاً كما قال عنها المرحوم حضيري ابو عزيز : حلوة وجنة، وأنا اضيف إليه أن أهلها هم الأحلى.

 

أ.د. ماهر موسى العبيدي

أكاديمي عراقي

 

 

»

اكتب تعليقا