اهلا بكم
اهلا بكم
بحث في الموقع

النظامية والثورية و(الطربكية) في الاعمال الادارية

 

 تتنوع الاعمال الادارية في الدوائر الحكومية في العراق, فتكون على انماط مختلفة, وقد شاهدت الكثير من المسؤولين يمارسون هذه الانماط من الادارة طيلة نصف قرن, ولكل من هذه الانماط صفات واساليب تظهر على سلوك المسؤولين عند ممارسة اعمالهم , فالاول منها (النمط النظامي) وهو ذلك الاسلوب الاداري الذي يعتمد على الاسس القانونية والنظامية الشرعية الاصولية التي صدرت على وفق قواعد دستورية شرعية رصينة ودقيقة , اعدت من قبل الوزارات والمؤسسات المتخصصة ثم تبلورت بممارسة المسؤولين في تلك المؤسسات وخبرتهم الطويلة, واستطيع القول ان الجهاز الاداري كان ملتزمًا بهذا النمط حتى نهاية الستينيات من القرن الماضي. اما ما كان يعاب عليه من الرتابة والبيروقراطية التي تشوب اعمال ذلك الجهاز , وبطء اجراءات تطويره وتحديثه فكان ذلك يعود بصورة مباشرة الى قلة المتخصصين وحملة الشهادات العليا في علوم ادارة الاعمال والادارة العامة, ولاسيما العلوم المالية والمحاسبية.

اما النمط الثاني من انماط الادارة فقد ظهر لدينا في العراق في اواخر الستينيات واوائل السبعينيات وكان يعتمد على الاسس القانونية والنظامية التي تبلورت منذ قيام الحكم الملكي وحتى اواخر الستينيات واوائل السبعينيات, اذ حاولت حكومة حزب البعث دفع جهاز الدولة الى العمل بطريقة اكثر حيوية وتحديث, والسعي الى تخفيف الروتين والرتابة التي يتسم بها جهاز الدولة الاداري, وهذه المحاولات وان نجحت في بدايتها الا انها لم تكن قائمة على اسس ونظريات علمية ادارية حديثة, سواء ما كان منها ذا مصدر اجنبي او ما كان ينبغي ان يعد على وفق البيئة والظروف العراقية, لذلك لم ترتق تلك المحاولات الى المستوى المنشود في تحديث وتطوير العمل الاداري , ولم تكن تلك المحاولات الثورية في تطوير الاعمال الادارية ناجحة بالمستوى المطلوب.

ان الاسلوب الثوري لجأت اليه دول عدة من اجل تطوير جهازها الاداري بما يتماشى مع فكرها الاقتصادي والاداري , سواء اكانت تلك الدول محكومة بحزب واحد يؤمن بالقيادة المركزية وتتصف نشاطاته بالشمولية, ام كانت ذات حكم ديمقراطي, فحصل فيها تطور كبير يتناسب مع تطورها وتقدمها الاقتصادي وكان ذلك التحديث يتسم بطابع اداري علمي ثوري لرصانته وكفاية انتاجه, وتعد الولايات المتحدة الامريكية والمانيا واليابان والدول الاسكندنافية وفي مقدمتها السويد , من الدول التي حصلت فيها مثل هذه الثورية العلمية في التحدديث الاداري.

اما الدول الاخرى التي كانت تحت الحكم الشمولي وتؤمن بفلسفة حكم الحزب الواحد او المركزية الديمقراطية فهي في الحقيقة حققت ثورية في تطوير نظامها الاداري بما يتفق وفلسفتها السياسية والاقتصادية, ومن ثم نظمت قواعد واسس انظمتها الادارية بقواعد شرعية وقانونية منسجمة مع فلسفة احزابها الحاكمة السياسية والاقتصادية .اما النوع الثالث من الانماط الادارية التي ارغب التحدث عنه في مقالتي هذه وهو الهدف الرئيس منها, فهو نمط (الطربكية في الاعمال الادارية) وقبل الشروع بالحديث عن هذا النوع, اود الاشارة الى سبب ورود مصطلح (الطربكية) الى الذهن , واعتماده نمطًا ثالثًا من الانماط الادارية فالفرق الكروية المصرية غالبًا ما يكون اداؤها جيدًا في الالعاب الدولية, وقد حققت هذه الفرق نتائج جيدة, ولكننا غالبًا ما نسمع او نقرأ ان في بعض هذه الالعاب تحقق هدف ما على اثر دربكة في منطقة دفاع الخصم, فهذه الحالة اذا كانت استثنائية عند الفرق المصرية فهي عند فرقنا الرياضية تعد قاعدة, فالاهداف التي تحققها غالبًا ما تكون على اثر دربكة (طربكة) امام المرمى ليتحقق بعد ذلك الهدف اليتيم, وقد يكون هدف الفوز على فرق ضعيفة, فنفرح ونشعر بنشوة الفوز ويكبر الامر في عيوننا, واذهاننا, وتخدعنا احلامنا فنظن اننا قاب قوسين او ادنى من كأس العالم, ولكننا نصحو فجأة من سكرة هذا الفوز على اثر خسارة قاسية ,فتسقط علينا كسقوط الماء البارد على رأس السكران في ليلة شاتية.

اما الطربكية في الاعمال الادارية التي شابت اعمال الكثير من مؤسساتنا الاقتصادية واداراتها منذ منتصف السبعينيات وحتى الوقت الحاضر فقد حصلت على ما اظن بسببين:

الاول منهما : هو اناطة ادارة المؤسسات برجل غير ذي كفاية, وفي موقع لا يتناسب معه على الاطلاق, ولان هذا الرجل طالب ولاية فلا يبادر الى الاعتذار عن استلام هذا المنصب فهي فرصة له وغنيمة فكيف يعتذر عنها, وما يحصل هو عكس ذلك, اذ نراه يهرول لاستلام هذا المنصب, ويتحمل المسؤولية وهو غير قادر على حملها , ثم يباشر في اتخاذ الاجراءات ويصدر القرارات التي لا تصب في الهدف الرئيس, وليس بالاتجاه الصحيح الذي ينبغي ان تكون عليه, فتنقلب الامور رأسًا على عقب, ويصبح عاليها سافلها, واذا ما تحقق نجاح او هدف وسط هذه الفوضى من السلوك الاداري, فأن ذلك لا يمكن ان يكون عائدًا الى الكفاية والخبرة التي يتمتع بهما ذلك المسؤول وانما يحصل ذلك بفضل (الطربكة) التي احدثها في مؤسسته التي يديرها ويصبح حاله مثل فرقنا الرياضية الكروية التي لا تحقق الهدف الا بفضل هذه الطربكة (او الدربكة كما يقول اخواننا المصريون).

اما الثاني : فهو اناطة الامور برجل مناسب شغل مكانًا مناسبًا وهو الامر الطبيعي الذي ينبغي ان تسير على اساسه الاعمال الادارية وغيرها, ولكونه كذلك ينتظر منه الاخرون ان يخلق العجب العجاب في بضع ايام من الزمن, ولانه يتمتع بالعلمية والخبرة الطويلة فهو يدرك تمامًا ان المهام لا تسلق سلقًا, وانما تحتاج الى عمل دؤوب ينفذ بدقة, ويحتاج الى وقت لتنفيذه ,الا ان الجميع في ظروفنا السابقة او الحالية على امتداد نصف قرن نعيشون في ظروف (طربكية) لذا فالكل ليسوا على استعداد لانتظار الاجراءات العلمية, ولا استعداد لديهم للسماح للمسؤول الاداري ذي السلوك العلمي السليم وذي الخبرة العريضة ان يأخذ ما يحتاجه من الوقت للتنفيذ فتبدأ الضغوط بشتى اصنافها, فيضطر صاحبنا مكرهًا غير طائع الى مجاراة الاوضاع السائدة والطباع المتأصلة في ادارة الامور على وفق القواعد التي يمكن ان نطلق عليها (القواعد الطربكية) فيتخذ قرارًا لا يخلو من الخطأ وحال ثبوت فشله يقيمون عليه الدنيا ولا يقعدونها وعند ذاك عليه ان يحترم نفسه فيودع المنصب او الوظيفة وربما يودع الجميع ليردد سرًا او علنًا من غير تردد (باي باي) لينطلق غالباً الى خارج العراق الى غير رجعة !!

 

 أ. د. ماهر موسى العبيدي

أكاديمي عراقي

 

 

»

اكتب تعليقا